فِي التَّفَاصِيل

من متعِ الحياةِ ولَعنَتِها ملاحظةُ التفاصيل؛
أن تحيا أكثرَ من حياةٍ في لحظةٍ واحدة،
أن تتذوّقَ الجمالَ أو تتجرّعَ القبحَ بكلِّ عمق،
فما أثقلَ لحظةً تفيضُ بكلِّ ما في الوجودِ من شعور،
وأدعُو الله أن تكونَ تلكَ اللحظةُ، حين تأتي، غيرَ حزينة.

ملاحظة التفاصيل ليست نعمة خالصة ولا نقمة مطلقة،
إنها امتحان الوعي، ومصدر متعته في آنٍ واحد.
من يلاحظها لا يمرّ بالحياة مرورًا سريعًا،
بل يعيشها طبقةً طبقة، يرى ما لا يُرى، ويسمع ما بين الأصوات،
ويفهم ما بين السطور.

من يرى التفاصيل يعيش دهشة الأشياء الصغيرة،
انعكاس الضوء على جدار، صوت المطر، حركة يدٍ عابرة.
المتعة لا تكمن في الحدث، بل في الانتباه إليه.
كلّ لحظةٍ تُرى بعمق تتحوّل إلى عالمٍ مستقلّ،
وكلّ إحساسٍ يُعاش بصفاءٍ يُضاعف معنى الوجود.
فالجمال لا يسكن الأشياء، بل يسكن العين التي تراها،
والقلب الذي يتوقّف لحظةً ليصغي إليها.

لكن الإدراك لا يأتي بلا ثمن.
فالعين التي ترى الجمال، ترى أيضًا ما يتصدّع تحته.
الوعي يكشف التناقض، والعمق يفضح الزيف،
حتى تغدو التفاصيل سيفًا ذا حدّين:
تمنحك المعنى، لكنها تجرّدك من الطمأنينة.
من يغوص في الأشياء يخرج مثقلاً بما أدرك،
فالوعي العميق لا يترك القلب كما كان.

ليس القبح نقيض الجمال، بل حدّه الآخر.
فالجمال يعلّمنا الدهشة، والقبح يعلّمنا الفهم.
ولا يمكن إدراك النور من دون الظلّ،
ولا تقدير الكمال من دون رؤية نقصه.
أن ترى العالم كما هو،
أن تقبل جماله وقلقه معًا،
تلك هي التجربة الكاملة للوعي الإنساني.

وفي النهاية، يبقى التوازن هو الغاية:
أن نرى دون أن نحترق،
ونشعر دون أن ننكسر.
وأدعُو الله أن تكونَ تلكَ اللحظةُ، حين تأتي،
مليئةً بما يكفي من الجمال،
وخاليةً مما يرهق القلب من القبح.

يمكنك نشر المقال على اي من هذه المنصات بالضغط على الايقونة

نٌشِر في

في

كتبه

تَعليقاتُ القُرّاءِ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *