تخيّل معي أن مدينتك لم تعد تتمحور حول ساحتها القديمة أو شارعها الرئيسي ولا حتى مركز المدينة Downtown، بل حول مول ضخم يلمع على أطرافها. فجأة، تجد الأحياء السكنية الجديدة تتجمّع حوله، والطرق تُشقّ باتجاهه، والخدمات تنتشر في محيطه. يصبح الحي “المثالي” هو الأقرب إلى المول، لا إلى قلب المدينة. هذا ليس مشهدًا عابرًا أو صدفة عمرانية. إنه جزء من تحوّل أعمق تقوده الرأسمالية الحديثة¹، حيث يتقدّم منطق السوق على منطق الإنسان. العمران اليوم لا يتشكل فقط ليخدمك كساكن، بل ليخدمك كمستهلك. ومع الوقت، يصبح المول هو مركز المدينة، لا مجرد جزء منها.
ماهي الرأسمالية؟
الرأسمالية هي نظام اقتصادي يقوم على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وتحقيق الأرباح من خلال السوق الحر والتنافس بين الأفراد والشركات. جوهرها أن القرارات الاقتصادية — من إنتاج السلع والخدمات إلى توزيعها — تُحدد في الغالب عبر آليات العرض والطلب، وليس عبر التخطيط المركزي للدولة.
تاريخيًا، ظهرت البذور الأولى للرأسمالية الحديثة في أوروبا بين القرنين السادس عشر والسابع عشر مع بروز التجارة البحرية الكبرى، وتطورت بقوة في القرن الثامن عشر مع الثورة الصناعية في بريطانيا، حيث ارتبطت بالصناعة الثقيلة والتوسع الاستعماري. ثم، في القرن العشرين، أصبحت الرأسمالية النموذج الاقتصادي السائد عالميًا، خاصة بعد تراجع الأنظمة الاشتراكية، وانتشار العولمة، وهي المرحلة التي وصل تأثيرها إلى المدن العربية والخليجية.
للتوسع حول موضوع الرأسمالية اقترح عليك مشاهدة حلقة 250 عام من الرأسمالية من بودكاست جادي على اذاعة ثمانية اخر المقال.
هذا النظام لم يؤثر على الاقتصاد فحسب، بل أعاد تشكيل الثقافة، والعلاقات الاجتماعية، بل وحتى ملامح المدن، حيث أصبح الربح والاستثمار أهم محركات العمران.
قبل الرأسمالية… كيف كانت المدن تتشكل؟
لو عدنا إلى الماضي، سنجد أن المدن العربية والإسلامية كانت تبنى حول قلب واحد نابض: المسجد الجامع، وبجواره السوق الرئيسي، وديوان الحكم، وحولهم الورش والمجالس والحمامات الشعبية. كان السوق أكثر من مكان للبيع والشراء؛ كان مركزًا ثقافيًا يجتمع فيه المفكرون والشعراء، كان ساحة لقاء، مكانًا لتبادل الأخبار، مركزًا لاتخاذ القرارات. المدينة كانت تنمو من هذا القلب، وتحتفظ بهويتها أينما امتدت.
لكن مع صعود الرأسمالية، تغيّر هذا كله. لم يعد “القلب” هو السوق، بل أصبح “القلب” مركزًا تجاريًا حديثًا، مركزه الاستهلاك، لا الاجتماع.
جدة… مثال محلي لظاهرة عالمية!
منذ النصف الثاني من القرن العشرين، تحوّلت المدن لتتبع رأس المال. المولات لم تعد مجرد أماكن تسوّق، بل صارت محاور عمرانية تعيد رسم الخريطة. حولها تُبنى المشاريع السكنية، ولخدمتها تُشق الطرق، وبسببها يُعاد ترتيب أولويات التخطيط.
خذ جدة مثلًا: منذ أواخر الستينات، ومع كل مول جديد مثل سوق جدة الدولي، سوق البوادي، سوق الحجاز… إلى مول العرب ورد سي مول، كانت الأحياء تتغير، والأسواق الشعبية تفقد زوارها، والمدينة تتحرك نحو الشمال. حتى الإعلانات العقارية بدأت تقول: “خمس دقائق من مول العرب!”، وكأن قربك من المول أهم من قربك من البحر أو وسط المدينة.
لكن جدة ليست استثناء. مدن كبرى مثل دبي في الإمارات، وكوالالمبور في ماليزيا، وجاكرتا في إندونيسيا، شهدت تحولات مشابهة حيث تحوّل المول إلى مركز الثقل العمراني، وحلّت الأبراج والمراكز التجارية الضخمة محل الأسواق الشعبية والشوارع النابضة بالحياة.
ماذا تغيّر؟
السوق القديم كان حيًّا، مفتوحًا، متصلًا بالمكان. فيه تعمل، تتسوق، تصلي، تلتقي بأهلك وجيرانك. أما المول فهو مساحة مغلقة، مُكيّفة، مصممة لتجعلك تشتري أكثر مما تخطط، ومراقَبة بكل التفاصيل². لا هو شارع ولا ساحة ولا مجلس… هو عالم تجاري كامل.
في جدة، أسواق مثل باب مكة وسوق الندى كانت يومًا قلب المدينة حيث يسكن الناس وحيث يعيشون. اليوم، حلّت محلها مولات مثل رد سي مول ومول العرب، حاملةً لغة عمرانية جديدة، لكن بلا روح. بالتالي، فقدت المباني روحها وفقدت العمارة بريقها. أصبحت الأحياء عبارة عن مبان مصمتة منقطعة عن كل شيء، تربطها شوارع خاوية من الهوية والذاكرة، بل حتى من الأشجار.
هي أحياء مليئة بالمباني، لكنها أحيانًا فارغة من الحياة. لا مقاهٍ شعبية، ولا دكاكين صغيرة، ولا ساحات يلتقي فيها الناس. الحي أصبح ممرًا، لا موطنًا. ينظر المار بها من نافذة سيارته فلا يرى إلا أسوارها، بعد أن كان الإنسان يمشي في حواريها وأزقتها فيعيش فيها كل لحظة بكل حواسه، يتذوق بديع المعمار ويشم رائحة النباتات والأشجار.
استعادة مدينتنا
هذه التحولات ليست قدرًا محتومًا. لدينا فرصة لإعادة التفكير في كيفية تصميم مدننا، بحيث لا تكون مجرد منصات للبيع، بل أماكن حقيقية للحياة. يمكننا أن نعيد التوازن بين الوظيفة الاقتصادية، والهوية المحلية، والحياة الاجتماعية. يمكن للتقنية أن تخدم الإنسان، لا أن تحاصره. يمكن للمباني أن تعكس ثقافتنا، لا أن تمحوها.
الأمر يبدأ بوعي سكان المدينة. حين يطالب الناس بفضاءات عامة، وبأسواق شعبية، وبأحياء قابلة للمشي، يضطر المخططون والمستثمرون إلى الاستجابة. مدينتك تستحق أن تُبنى للعيش، لا للبيع. والسؤال الذي يبقى: هل سنكتفي بمشاهدة المولات وهي تبتلع مدننا، أم سنعيد لها قلبها النابض؟
📌 هوامش:
¹ ديفيد هارفي، حالة ما بعد الحداثة: بحث في أصول التغير الثقافي، ترجمة فواز طرابلسي، المركز الثقافي العربي، 2005.
² Adam Greenfield, Against the Smart City, Do Projects, 2013.
اترك تعليقاً