هل نحنُ مُلزمون بهُويَّتنا؟

الصورة من اطهر بقاع الارض: ساحات الحرم المكي

في كل مدينة نعيشها، وفي كل شارع نمر به، يطل علينا سؤال قديم يتجدد مع كل مشروع معماري جديد: هل يجب أن يظل المبنى وفيًّا لهويته المحلية؟ وهل من واجبنا أن تبقى مدننا مطابقة لصورتها قبل مئة عام؟ هل الهوية مجرد قشرة خارجية يمكن التخلص منها أو لصقها على الواجهة في آخر لحظة؟

ما وراء الطراز: معنى الهوية

الحقيقة أن الهوية أعمق من مجرد زخارف وطرازات معمارية. فالطراز قد يكون قوسًا أندلسيًا أو واجهة حجرية أو مشربية خشبية، أما الهوية فهي نتاج تفاعل أوسع بين الثقافة والمكان والزمان. المفكر أموس رابابورت كتب في أواخر الستينيات أن العمارة ليست مجرد فن بصري، بل شكل من أشكال السلوك الثقافي؛ إنها انعكاس لطريقة عيش الناس وكيف يجتمعون ويطبخون ويحتفلون ويتواصلون مع بيئتهم. من هنا، فإن الهوية لا تُضاف إلى المبنى كما يضيف البعض قوسًا تراثيًا فوق برج زجاجي، بل تُبنى منذ اللحظة الأولى لتصميمه، من اختيارات مواده، ومن علاقته بمناخه، ومن طريقة توزيع فراغاته بما يناسب حياة ساكنيه.

عبر التاريخ، كان هذا الجدل حاضرًا. باريس في القرن التاسع عشر واجهت أزمة هوية عندما شرع البارون هوسمان في إعادة تخطيطها بين 1853 و1870. هُدمت أحياء ضيقة وظهرت شوارع مستقيمة وحدائق واسعة. كثير من سكان المدينة شعروا أن باريس تفقد ملامحها، لكن الزمن أثبت أن ما حدث لم يكن طمسًا للهوية بقدر ما كان إعادة صياغة لها لتتلاءم مع العصر الصناعي. بعد أكثر من قرن، واجهت باريس جدلًا مشابهًا عندما أضيف الهرم الزجاجي لمتحف اللوفر عام 1989 على يد المعماري آي. إم. بي. الصحافة الفرنسية هاجمته بضراوة واعتبرته جرحًا في قلب المبنى الكلاسيكي، لكنه اليوم يُعد أحد أبرز رموز المدينة. أن الهوية وجدت لتتجدد لا لتتجمد، ولتكتسب طبقاتها  مع مرور الزمن.

الأمر نفسه نجده في البندقية، المدينة التي أدرجتها اليونسكو عام 1987 على قائمة التراث العالمي. هنا لم يعد النقاش حول الهوية أمرًا محليًا، بل صار التزامًا عالميًا. أي مشروع جديد في البندقية يخضع لقوانين صارمة حتى لا يهدد النسيج التاريخي. هذه الصرامة ليست عشوائية، بل وُضعت لأن هوية المدينة باتت جزءًا من ذاكرة إنسانية مشتركة.

وفي دول الخليج، كانت التحولات أسرع وأعنف. النفط الذي ظهر في منتصف القرن العشرين حوّل مدنًا مثل الكويت والدوحة وأبوظبي من قرى صغيرة إلى حواضر حديثة في فترة قصيرة جدًا. كثير من الأحياء القديمة أزيلت، وحلّت محلها أبراج وأسواق مغلقة. لكن في العقود الأخيرة بدأت هذه المدن تستعيد وعيها بالهوية. الدوحة مثلًا أعادت إحياء سوق واقف عام 2006، فصار السوق التقليدي مساحة معاصرة تجمع بين التجارة والسياحة. أبوظبي بدورها حافظت على قصر الحصن، الذي يعود إلى القرن الثامن عشر، وأعادت توظيفه كمركز ثقافي حي.

أما في السعودية، فقد برزت مشاريع أعادت الهوية إلى قلب التنمية. حي الطريف بالدرعية، الذي أدرج على قائمة التراث العالمي عام 2010، جرى ترميمه باستخدام الطين والحجر وفق الأساليب التقليدية، لكن دون أن يُترك كأثر جامد، بل أُدخلت فيه البنية التحتية الحديثة ليكون فضاءً نابضًا بالحياة. جدة التاريخية شهدت منذ عام 2014 جهودًا متواصلة لترميم بيوتها وأسواقها، مثل بيت نصيف وبيت باعشن، في محاولة للحفاظ على النسيج العمراني الحجازي وتوظيفه سياحيًا وثقافيًا. وفي العلا، منذ 2017، جرى تطوير المنطقة بطريقة تجمع بين عمارتها التقليدية والإسلامية ومشاريع سياحية متقدمة جعلت من الهوية المحلية مورد قوة لا عائقًا. حتى وسط الرياض يشهد اليوم إعادة تشكيل تستلهم الطابع النجدي في ملامحها، مع إدماج ناطحات حديثة تناسب إيقاع المدينة المعاصرة. هذه المشاريع تؤكد أن الهوية ليست في مواجهة مع الحداثة، بل يمكن أن تكون رافعة لها.

ومع ذلك، لا يعني هذا أن الالتزام بالهوية يجب أن يكون مطلقًا في كل مكان. هناك مساحات من الحرية ينبغي أن تُترك مفتوحة للإبداع والتجديد، خاصة في المشاريع التجارية والسكنية الخاصة. في برشلونة مثلًا، يحصل المستثمرون الذين يحترمون الطابع الكاتالوني في التصميم على إعفاءات ضريبية، وهو نموذج يوضح كيف يمكن تشجيع الهوية بالحوافز لا بالإجبار. وفي إسطنبول، رغم السماح بإنشاء أبراج حديثة في ضواحيها، تمنع قوانين التخطيط أي بناء مرتفع يطغى على مشهد السلطان أحمد وآيا صوفيا. الفكرة أن الهوية تُصان بالوعي والتشجيع، لا بالمنع المطلق.

بين الحرية والإلزام

ما نستخلصه من هذه التجارب أن الهوية ليست عبئًا، وليست حرية عمياء. هي مسؤولية مشتركة بين المجتمع والقطاع العام والخاص. صحيح أن بعض المباني الرمزية والتاريخية لا تحتمل أي تنازل، مثل قصر الحمراء في غرناطة أو البرلمان البريطاني في لندن أو حي الطريف في الرياض، لكن في مساحات أخرى يمكن أن تتجدد الهوية وتتنفس بطرق معاصرة، شرط أن تكون الجسور مع الماضي قائمة.

إن الجهود المبذولة اليوم في السعودية لإحياء المواقع التاريخية وإعادة دمجها في حاضر المدن ليست ترفًا معماريًا، بل هي تأكيد على أن الهوية قادرة على أن تكون أساسًا للتنمية. فالهوية ليست قيدًا يعيق التقدم، ولا شعارًا للحنين، بل هي مورد حقيقي يُثري حاضرنا ويمنح مدننا خصوصيتها في عالم تتشابه فيه الأبراج والأسواق والمجمعات التجارية.

وفي النهاية، السؤال الحقيقي ليس: هل نحن ملزمون بالهوية؟ بل: كيف نعيد صياغتها لتظل حية؟ الهوية ليست ما يقيّدنا إلى الأمس، بل ما يمنحنا القدرة على أن نكون نحن، ونحن نسير نحو الغد.

يمكنك نشر المقال على اي من هذه المنصات بالضغط على الايقونة

تَعليقاتُ القُرّاءِ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *